الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» **
فيه توجه إبراهيم باشا إلى أبيه بالإسكندرية فأقام هناك أيامًا وعاد في آخر الشهر فأقام بمصر أيامًا قليلة وسافر إلى ناحية قبلي ليجمع ما يجده عند الناس من القمح والفول والعدس لثلاثة أصناف وأخذوا كل سفينة غصبًا وساقوا الجميع إلى قبلي لحمل الغلال وجمعها في الشون البحرية لتباع على الإفرنج والروم بالأثمان الغالية وانقضت السنة. ومن حوادثها زيادة النيل الزيادة المفرطة وخصوصًا بعد الصليب وقد كان حصل الاعتناء الزائد بأمر الجسور بسبب ما حصل في العامين السابقين من التلف فلما حصلت هذه الزيادة بعد الصليب وطف الماء على أعلى الجسور وغرق مزارع الذرة والنيلة والقصب والأرز والقطن وأشجار البساتين وغالب أشجار الليمون والبرتقال بما عليها من الثمار وصار الماء ينبع من الأرض الممنوعة نبعًا ولا عاصم من أمر الله وطال مكث الماء على الأرض حتى فات أوان الزراعة ولم نسمع ولم نر في خوالي السنين تتابع الغرقات بل كان الغرق نادر الحصول وعلا ماء الخليج حتى سد غالب فرجات القناطر ونبع الماء من الأراضي الواطية القريبة من الخليج مثل غيط العدة وجامع الأمير حسين ونحو ذلك. ومنها أن ترعة الإسكندرية المحدثة لما تم حفرها وسموها بالمحمودية على اسم السلطان محمود فتحوا لها شرمًا دون فمها المعد لذلك وامتلأت بالماء فلما بدات الزيادة فزادت وطف الماء في المواضع الوطية وغرقت الأراضي فسدوا ذلك الشرم وأبقوا من داخله فيها عدة مراكب للمسافرين فكانوا ينقلون منها إلى مراكب البحر ومن البحر إلى مراكبها وبقي ماؤها مالحًا متغيرًا ومنها أنه لما وقع القياس في أراضي القرى قرروا مسموحًا لمشايخ البلاد في نظير مضايقهم خمسة أفدنة من كل مائة فدان وفي هذا العام يدفع مال المسموح سنتين وذلك عقب مطالبتهم بالخراج قبل أوانه وما صدقوا أنهم غلقوه ببيع غلالهم بالنسيئة والاستدانة وبيع المواشي والأمتعة ومصاغ النساء وكانوا أيضًا طولبوا في السنين الخوالي التي كانوا عجزوا عنها ولم يزك رمي الغلال في هذه السنة وكذلك الفول وثمر النخيل والفواكه ولما طولب مشايخ البلاد بمال المسموح ازداد كربهم فأنه ربما يجيء على الواحد ألف ريال وأقل وأكثر وقد قاسوا الشدائد في غلاق الخراج الخارج عن الحد وعدم زكاء الزرع وغرق مزارع النيلة والأرز والقطن والقصب والكتان وغير ذلك. وفي أثر ذلك فرضوا على الجواميس كل رأس عشرون قرشًا وعلى الجمل ستون قرشًا وعلى الشاة قرش والرأس من المعز سبعة وعشرون نصفًا وثلث البقرة خمسة عشر والفرس كذلك. ومنها احتكار الصابون ويحجز جميع الوارد على ذمة الباشا ثم سومح تجاره بشرط أن يكون جميع صابون الباشا ومرتباته ودائرته من غير ثمن وهو شيء كثير ويستقر ثمنه على ستين نصفًا بعد أن كان بخمسين جردًا من غير نقو. ومنها ما أحدث على البلح بأنواعه وما يجلب من الصعيد والإبريمي وأنواع العجوة حتى جريد النخل والليف والخوص يؤخذ جميع ذلك بالثمن القليل ويباع ذلك للمتسببين بالثمن الزائد وعلى الناس بأزيد من ذلك وفي هذه السنة لم تثمر النخيل إلا القليل جدًا ولم يظهر البلح الأحمر في أيام وفرته ولم يوجد بالأسواق إلا أيامًا قليلة وهو شيء رديء وبسر ليس بجيد ورطله بخمسة أنصاف وهي ثمن العشرة أرطال في السابق وكذلك العنب لم يظهر منه إلا القليل وهو الفيومي والشرقاوي وقد التزم به من يعصره شرابًا بأكياس كثيرة مثل غيره من الأصناف وغير ذلك جزئيات لم يصل إلينا علمها ومنها ما وصل إلينا علمها وأهملنا ذكرها. ومنها أن حسن باشا سافر إلى الجهة القبلية وصحبته بعض الإفرنج الذين كان رخص لهم الباشا السياحة والغوص بأراضي الصعيد والفحص وفحر الأراضي والكهوف والبرابي واستخراج الآثار القديمة والأمم السالفة من التماثيل والتصاوير ونواويس الموتى وقطع الصخور بالبارود وأشاعوا أنه ظهر لهم شيء مخرفش يشبه خرء الرصاص أو الحديد وبه بعض بريق ذكروا أنه معدن إذا تصفى خرج منه فضة وذهب وأخبرني بعض من أثق بخبره أنه أخذ منه قطعة تزيد في الوزن على رطلين وذهب بها عند رجل صائغ فأوقد عليها نحو قنطار من الفحم بطول النهار فخرج منها في آخر الأمر وهو ينقلها من بوط إلى آخر بعد كسره قطعة مثل الرصاص قدر الأوقية وذكروا أيضًا أن بالجبل أحجارًا سوداء مثل الفحم وذلك أنهم أتوا بمثل ذلك من بلاد الإفرنج وأوقدها بالضربخانة كريهة الرائحة مثل الكبريت ولا تصير رمادًا بل تبقى على حجريتها مع تغير اللون ويحتاج إلى نقلها إلى الكيمان وقالوا أن بداخل جبال الصعيد كذلك فسافر حسن باشا بقصد استخراج هذه الأشياء وأمثالها فأقام نحو ثلاثة أشهر وذلك بأمر الباشا الكبير وهم يكسرون الجبل بالبارود فظهر بالجبل بجس يسيل منه دهن أسود بزرقة ورائحته زنخة كبريتية يشبه النفط وليس هو وأتوا بشيء منه إلى مصر وأوقدوا منه في السرج فملؤا منه سبعة مصافي وانقطع وأشيع في الناس قبل تحقق صورته بل وصلت مكاتبات بأنه خرج من الجبل عين تسيل بالزيت الطيب ولا ينقطع جريانها يكفي مصر وأقطاعها بل والدنيا أيضًا وأخبرني بعض أتباعهم أن الذي صرف في هذه المرة نحو الألفي كيس. ومن حوادث هذه السنة الخارجة عن أرض مصر أن السلطان محمود تغير خاطره على علي باشا المعروف بتيه رنلي حاكم بلاد الأرنؤد وجرد عليه العساكر ووقع لهم معه حروب ووقائع واستولوا على أكثر البلاد التي تحت حكمة وتحصن هو في قلعة منيعة وعلى باشا هذا في مملكة واسعة وجنود كثيرة وله عدة أولاد متأمرين كذلك وبلادهم بين بلاد الرومنلي والنمسا ويقال أن بعض أولاده دخل تحت الطاعة وكذلك الكثير من عساكره وبقي الأمر على ذلك ودخل الشتاء وانقضت السنة ولم يتحقق عنه خبر. ومنها أمر المعاملة وما يقع فيها من التخطيط والزيادة حتى بلغ صرف الريال الفرانسة اثني عشر قرشًا عنها أربعمائة وثمانون نصفًا والبندقجي ألف فضة وكذلك المجر والفندقلي الإسلامي سبعة عشر قرشًا والقرش الإسلامبولي بمعنى المضروب هناك المنقول إلى مصر يصرف بقرشين وربع يزيد عن المصري ستين نصفًا وكذلك الفندقلي الإسلامبولي يصرف في بلدته بأحد عشر قرشًا وبمصر بسبعة عشر كما تقدم فتكون زيادته ستة قروش وكذلك الفرانسة في بلادها تصرف بأربعة قروش وبإسلامبول بسبعة وبمصر بإثنى عشر وأما الأنصاف العددية التي تذكر في المصارفات فلا وجود لها أصلًا إلا في النادر جدًا واستغنى الناس عنها لغول الأثمان في جميع المبيعات والمشتروات وصار البشلك الذي يقال له الخمساوية أي صرفة خمسة أنصاف هي بدل النصف لأنه لما بطل ضرب القروش بضربخانة مصر وعوض عنها نصف القرش وربعه وثمنه الذي هو البشلك ولم يبق بالقطر إلا ما كان موجودًا قبل وهو كثير يتناقل بأديد الناس وأهل القرى ويعود إلى الخزينة ويصرف في المصارف والمشاهرات وعلائف العساكر كذلك يشترون لوازمهم فتذهب وتعود وهكذا تدور مع الفلك كلما دار ويصرف القرش عند الاحتياج إلى صرفه بسبعة من البشلك بنقص الثمن فباعتبار كونها في مقام النصف يكون القرش بسبعة أنصاف لا غير وباعتبار ذلك يكون الألف فضة بمائة وخمسة وسبعين فضة لأن الخمسة وعشرين قرشًا التي هي بدل الألف إذا نقصت في المصارفة الثمن تكون إحدى وعشرين وإذا ضربنا السبعة في الخمسة وعشرين كانت مائة وخمسة وسبعين وفيها من الفضة الخالصة ستة دراهم لا غير وأوزان هذه القطع مختلفة لا تجد قطعة وزن نظيرتها وفي ذلك فرط آخر والقليل في الكثير كثير والذي أدركناه في الزمن السابق أن هذه القروش لم يكن لها وجود بالقطر المصري البتة وأول من أحدثها بمصر علي بك القازدغلي بعد الثمانين ومائة وألف عندما استفحل أمره وأكثر من العساكر والنفقات وأظهر العصيان على الدولة ولما استولى محمد بك المعروف بأبي الذهب أبطلها رأسًا من الإقليم وخسر الناس بسبب إبطالها حصة من أموالهم مع فرحهم بإبطالها ولم يتأثروا بتلك الخسارة لكثرة الخير والمكاسب ولم يبق من أصناف المعاملة إلا أنواع الذهب الإسلامي والإفرنجي والفرانسة ونصفه وربعه والفضة الصغيرة التي يقال لها نصف فضة مع رخاء الأسعار وكثرة المكاسب ويصرف هذا النصف بعدد من الأفلس النحاس التي يقال لها الجدد إما عشرة أو اثنا عشرة إذا كانت مضروبة ومختومة أو عشرين إذا كانت صغيرة وبخلاف ذلك ويقال لها السحاتة فكان غالب المحقرات يقضي بهذه الجدد بل وخلاف المحقرات وفي البيع والشراء وكان يجلب منها الكثير مع الحجاج المغاربة في المخالي ويبيعونها على أهل الأسواق بوزن الأرطال ويربحون فيها فكان الفقير أو الأجير إذا اكتسب نصفًا وصرفه بهذه الجدد كفاه نفقة يومه مع رخاء الأسعار ويشتري منها خبزًا وأدمًا وإذا احتاج الطابخ لوازم الطبخة في التقلية أخذ من البقال البصل والثوم والسلق والكسبرة والبقدونس والفجل والكراث والليمون الصنف أو الصنفين أو الثلاثة بالجديد الواحد وقد انعدمت هذه الجدد بالكلية وإذا وجدت فلا ينتفع بها أصلًا وصار النصف الفضة بمنزلة الجديد النحاس ولا وجود له أيضًا وصارت الخمساوية بمنزلة النصف بل وأحقر لأنه كان يصرف بعدد كثير من الجدد وهذه بخمسة فقط فإذا أخذ الشخص شيئًا من المحقرات بنصف أو نصفين أو ثلاثة ما كان يؤخذ بجديد أو جديدين لم يجد عند البائع بقية الخمساوية فإما يترك الباقي لوقت احتياج آخر إن كان يعرفه وإلا تعطلا وإذا كان الإنسان بالسوق ولحقه العطش فيشرب من السقاء الطواف ويعطيه جديدًا أو يملأ صاحب الحانوت إبريقه بجديد وفي هذه الأيام إذا كان الشخص لم يكن معه بشلك يشرب به وإلا بقي عطشان حتى يشرب من داره ولا يهون عليه أن يدفع ثمن قربة في شربة ماء وذلك لعدم وجود النصف وكذلك الصدقة على الفقراء وأمثالهم وقد كان الناس من أرباب البيوت إذا زاد بعد ثمن اللحم والخضار نصف يسألون الخادم في اليوم الثاني عنه لكونه نصف المصروف ويحاسبونه عليه وكان صاحب العيال وذوو البيوت المحتوية على عدة أشخاص من عيال وجوار وخدم إذا ادخر الغلة والسمن والعسل والحطب ونحو ذلك يكفيه في مصرف يومه العشرة أنصاف في ثمن اللحم والخضار وخلافه وأما اليوم فلا يقوم مقامها العشرة قروش وأزيد لغلو الأسعار في كل شيء بسبب الحوادث والاحتكارات السابقة والمتجددة كل وقت في جميع الأصناف ولا يخفى أن أسباب الخراب التي نص عليها المتقدمون اجتمعت وتضاعفت في هذه السنين وهي زيادة الخراج واختلال المعاملة أيضًا والمكوس وزاد على ذلك احتكار جميع الأصناف والاستيلاء على أرزاق الناس فلا تجد مرزوقًا إلا من كان في خدمة الدولة متوليًا على نوع من أنواع المكوس أو مباشرًا أو كاتبًا أو صانعًا في الصنائع المحدثة ولا يخلو من هفوة ينم بها عليه فيحاسب مدة استيلائه فيجتمع عليه جملة من الأكياس فيلزم بدفعها وربما باع داره ومتاعه فلا يفي بما تأخر عليه فأما يهرب إن أمكنه الهرب وإما يبقى في الحبس هذا إن كان من أبناء العرب وأهالي البلدة وأما إن كان بخلاف ذلك فربما سومح أو تصدى له من يخفف عنه أو يدخله في منصب أو شركة فيترفع حاله ويرجع أحسن حالًا ما كان. ومما حدث أيضًا في هذه السنة الاستيلاء على صناعة المخيش والقصب التلي الذي يصنع من الفضة للطرازات والمقصبات والمناديل والمحارم وخلافها من الملابس وذلك بإغراء بعض صناعهم وتحاسدهم وإن مكسبها يزيد على ألف كيس في السنة لأن غالب الحوادث بإغراء الناس على بعضهم البعض وكذلك الاستيلاء على وكالة الجلابة التي يباع فيها الرقيق من العبيد والجواري السود وغيرهم من البضائع التي تجلب من بلاد السودان كسن الفيل والتمر هندي والشتم وروايا الماء وريش النعام وغير ذلك. ومنها الحجر على عسلي النحل وشمعه فيضبط جميعه للدولة ويباع رطل الشمع بستة قروش ولا يوجد إلا ما كان مختلسًا ويباع خفية وكان رطله قبل الحجر بثلاثة قروش فإذا وردت مراكب إلى السحل نزل إليها المفتشون على الأشياء ومن جملتها الشمع فيأخذون ما يجدونه ويحسب لهم بأبخس ثمن فإن أخفي شيء وعثر عليه أخذوه بلا ثمن ونكلوا بالشخص الذي يجدون معه ذلك وسموه حراميًا ليرتدع غيره والمتولي على ذلك نصارى وأعوانهم لا دين لهم وقد هاف النحل في هذه السنة وامتنع وجود العسل وكذلك ثمر النخيل بل والغلال فلم تزك في هذه السنين مع كثرة الأسيال التي غرقت منها الأراضي بل وتعطل بسببها الزرع وزادت أثمانها وخصوصًا الفول وأما العدس فلا يوجد أيضًا إلا نادرًا. وكذلك التزم بالملاحة وتوابعها من زاد في مالها وبلغ ثمن الكيلة قرشًا وكانت قبل ذلك بثلاثين نصفًا وفيما أدركنا بثلاثة أنصاف وأما أجر الأجراء والفعلة والمعمرين فأبدل النصف بالقرش وكذلك ثمن الجير البلدي والجبس لأن عمائر أهل الدولة مستديمة لا تنقضي أبدًا ونقل الأتربة إلى الكيمان على قطارات الجمال والحمير من شروق الشمس إلى غروبها حتى ستر علوها الأفق من كل ناحية وإذا بنى أحدهم دارًا فلا يكفيه في ساحتها الكثير ويأخذ ما حولها من دور الناس بدون القيمة ليوسع بها داره ويأخذ ما بقي في تلك الخطة لخاصته وأهل دائرته ثم يبني أخرى كذلك لديوانه وجمعيته وأخرى لعسكره وهكذا. وأما سليمان آغا السلحدار فهو الداهية العظمى والمنصيبة الكبرى فإنه تسلط على بقايا المساجد والمدارس والتكايا التي بالصحراء ونقل أحجارها إلى داخل باب البرقية بالغريب وكذلك ما كان جهة باب النصر وجمعوا أحجارها خارج باب النصر وأنشأ جهة خان الخليلي وكالة وجعل بها حواصل وطباقًا وأسكنها نصارى الأروام والأرمن بأجرة زائدة أضعاف الأجر المعتادة وكذلك غيرهم ممن رغب في السكنى وفتح لها بابًا يخرج منه إلى وكالة الجلابة الشهيرة التي بالخراطين لأنها بظاهرها وأجر الحوانيت كانت بأجرة زائدة فأجر الحانوت بثلاثين قرشًا في الشهر وكانت الحانوت تؤجر بثلاثين نصفًا في الشهر والعجب في إقدام الناس على ذلك وأسراعهم في تآجرهم قبل فراغ بنائها مع ادعائهم قلة المكاسب ووقف الحال ولكنهم أيضًا يستخرجونها من لحم الزبون وعظمه ثم أخذ بناحية داخل باب النصر مكانًا متسعًا يسمى حوش عطى بضم العين وفتح الطاء وسكون الياء كان محطًا لعربان الطور ونحوهم إذا وردوا بقوافلهم بالفحم والقلي وغيره وكذلك أهالي شرقية بلبيس فأنشأ في ذلك المكان أبنية عظيمة تحتوي على خانات متداخلة وحوانيت وقهاوي ومساكن وطباق وسكن غالبها أيضًا الأرمن وخلافهم بالأجر الزائدة ثم انتقل إلأى جهة خان الخليلي فأخذ الخان المعروف بخان القهوة وما حوله من البيوت والأماكن والحوانيت والجامع المجاور لذلك تصلى فيه الجمعة بالخطبة فهدم ذلك جميعه وأنشأ خانًا كبيرًا يحتوي على حواصل وطباق وحوانيت عدتها أربعون حانوتًا أجرة كل حانوت ثلاثون قرشًا في كل شهر وأنشأ فوق السبيل وبعض الحوانيت زاوية لطيفة يصعد إليها بدرج عوضًا عن الجامع ثم انتقل إلى جهة الخرنفش بخط الأمشاطية فأخذ أماكن ودورًا وهدمها وهو الآن مجتهد في تعميرها كذلك فكان يطلب رب المكان ليعطيه الثمن فلا يجد بدًا من الإجابة فيدفع له ما سمحت به نفسه إن شاء عشر الثمن أو أقل أو أزيد بقليل وذلك لشفاعة أو واسطة خير وإذا قيل له أنه وقف ولا مسوع لاستبداله لعدم تخربه أمر بتخريبه ليلًا ثم يأتي بكشاف القاضي فيراه خرابًا فيقضي له وكان يثقل عليه لفظة وقف ويقول إيش يعني وقف وإذا كان على المكان حكر لجهة وقف أصله لا يدفعه ولا يلتفت لتلك اللفظة ويتمم عمائره في أسرع وقت لعسفه وقوة مراسه على أرباب الأشغال والموانة ولا يطلق للفعلة الرواح بل يحبسهم على الدوام إلى باكر النهار ويوقظونهم من آخر الليل بالضرب ويبتدؤن العمل من وقت صلاة الشافعي إلى قبيل الغروب حتى في شدة الحر في رمضان وإذا ضجوا من الحر والعطش أمرهم مشد العمارة بالشرب وأحضر لهم السقاء ليسقهم وظن أكثر الناس أن هذه العمائر إنما هي لمخدومه لأنه لا يسمع لشكوى أحد فيه واشتد في هذا التاريخ أمر المساكن بالمدينة وضاقت بأهلها لشمول الخراب وكثرة الأغراب وخصوصًا المخالفين للملة فهم الآن أعيان الناس يتقلدون المناصب ويلبسون ثياب الأكابر ويركبون البغال والخيول المسومة والرهوانات وأمامهم وخلفهم العبيد والخدم وبأيديهم العصي يطردون الناس ويفرجون لهم الطرق ويتسرون بالجواري بيضًا وحبوشًا ويسكنون المساكن العالية الجليلة يشترونها بأغلى الأثمان ومنهم من له دار بالمدينة ودار مطلة على البحر للنزاهة ومنهم من عمر له دارًا وصرف عليها ألوفًا من الأكياس وكذلك أكابر الدولة لاستيلاء كل من كان في خطه على جميع دورها وأخذها من أربابها بأي وجه وتوصلوا بتقليدهم مناصب البدع إلى إذلال المسلمين لأنهم يحتاجون إلى كتبة وخدم وأعوان والتحكم في أهل الحرفة بالضرب والشتم والحبس من غير إنكار ويقف الشريف والعامي بين يدي الكافر ذليلًا فضاقت بالناس المساكن وزادت قيمتها أضعاف الأضعاف وأبدل لفظ الريال الذي كان يذكر في قيم الأشياء بالكيس وكذلك الأجر والأمر في كل شيء في الازدياد والله لطيف بالعباد ولو أردنها استيفاء بعض الكليات فضلًا عن الجزئيات لطال المقال وامتد الحال وعشنا ومتنا ما نرى غير ما نرى تشابهت العجما وزاد انعجامها نسأل الله حسن اليقين وسلامة الدين. استهل شهر المحرم بيوم الإثنين وفي أوائله حضر الباشا من الإسكندرية. وفيه الحوادث أن الشيخ إبراهيم الشهير بباشا المالكي بالإسكندرية قرر في درس الفقه أن ذبيحة أهل الكتاب في حكم الميتة لا يجوز أكلها وما ورد من إطلاق الآية فإنه قبل أن يغيروا ويبدلوا في كتبهم فلما سمع فقهاء الثغر ذلك أنكروه واستغربوه ثم تكلموا مع الشيخ إبراهيم المذكور وعارضوه فقال أنا لم أذكر بذلك بفهمي وعلمي وإنما تلقيت ذلك عن الشيخ علي الميلي المغربي وهو رجل عالم متورع موثوق بعلمه ثم أنه أرسل إلى شيخه المذكور بمصر يعلمه بالواقع فألف رسالة في خصوص ذلك وأطنب فيها فذكر أقوال المشايخ و الخلافات في المذاهب واعتمد قول الإمام الطرطوشي في المنع وعدم الحل وحشا الرسالة بالحط على علماء الوقت وحكامه وهي نحو الثلاثة عشر كراسة وأرسلها إلى الشيخ إبراهيم فقرأها على أهل الثغر فكثر اللغط والإنكار خصوصًا وأهل الوقت أكثرهم مخالفون للملة وانتهى الأمر إلى الباشا فكتب مرسومًا إلى كتخدا بك بمصر وتقدم إليه بأن يجمع مشايخ الوقت لتحقيق المسئلة وأرسل إليه بالرسالة أيضًا المصنفة فأحضر كتخدا بك المشايخ وعرض عليهم الأمر فلطف الشيخ محمد العروسي العبارة وقال الشيخ علي الميلي رجل من العلماء تلقى عن مشايخنا ومشايخهم لا ينكر علمه وفضله وهو منعزل عن خلطة الناس إلا أنه حاد المزاج وبعقله بعض خلل والأولى أن نجتمع به ونتذاكر في غير مجلسكم وننهي بعد ذلك الأمر إليكم فاجتمعوا في ثاني يوم وأرسلوا إلى الشيخ علي يدعونه للمناظرة فأبى عن الحضور وأرسل الجواب مع شخصين من مجاوري المغاربة يقولان أنه لا يحضر مع الغوغاء بل يكون في مجلس خاص يتناظر فيه مع الشيخ محمد ابن الأمير بحضرة الشيخ حسن القويسني والشيخ حسن العطار فقط لأن ابن الأمير يناقشه ويشن عليه الغارة فلما قالا ذلك القول تغير ابن الأمير وأرعد وأبرق وتشاتم بعضمن بالمجلس مع الرسل وعند ذلك أمروا بحبسهما في بيت الآغا وأمروا الآغا بالذهاب إلى بيت الشيخ علي وإحضاره بالمجلس ولو قهرًا عنه فركب الآغا وذهب إلى بيت المذكور فوجده قد تغيب فأخرج زوجته ومن معها من البيت وسمر البيت فذهبت إلى بيت بعض الجيران ثم كتبوا عرضًا محضرًا وذكروا فيه بأن الشيخ عليًا على خلاف الحق وأبى عن حضور مجلس العلماء والمناظرة معهم في تحقيق المسئلة وهرب واختفى لكونه على خلاف الحق ولو كان على الحق ما اختفى ولا هرب والرأي لحضرة الباشا فيه إذا ظهر وكذلك في الشيخ إبراهيم باشا السكندري وتمموا العرض وأمضوه بالختوم الكثيرة وأرسلوه إلى الباشا وبعد أيام أطلقوا الشخصين من حبس الآغا ورفعوا الختم عن بيت الشيخ علي ورجع أهله إليه وحضر الباشا إلى مصر في أوائل الشهر ورسم بنفي الشيخ إبراهيم باشا إلى بني غازي ولم يظهر الشيخ علي من اختفائه. واستهل شهر صفر بيوم الأربعاء سنة 1236 وفي أوائله حضر إبراهيم باشا من الجهة القبلية بعد ما طاف الفيوم أيضًا واحضر معه جملة أشخاص قبض عليهم من المفسدين من العربان وهم في الجنازير الحديد وشقوا بهم البلد ثم حبسوهم. واستهل شهر ربيع الأول بيوم الخميس سنة 1236 وفي أوائله حضر نحو العشرة أشخاص من الأمراء المصرية البواقي في حالة رثة وضعف وضيم واحتياج واجتياح وكانوا أرسلوا وطلبوا الأمان وأجيبوا إلى ذلك. وفيه أشهروا العربان الذين أحضرهم إبراهيم باشا معه وقتلوهم وهم أربعة اثنان بالرميلة واثنان بباب زويلة. واستهل شهر ربيع الثاني بيوم السبت سنة 1236 وفيه أخرج الباشا عبد الله بك الدرندلي منفيًا وكان عبد الله بك هذا يسكن بخطة الخرنفش وهو رجل فيه سكون قليل الأذى وملك بتلك الناحية دورًا وأماكن وله عزوة وعساكر وأتباع وكان يجلس بحضرة الباشا وينادمه ويتوسع معه في الكلام والمسامرة وسبب تغير خاطر الباشا عليه أنه جرى ذكر علي باشا تبدلان الأرنؤدي وحروبه ومخالفة العساكر عليه فقال عبد الله المذكور أن العساكر يرون محاربة السلطان معصية أو كلامًا هذا معناه فتغير وجه الباشا من ذلك القول ويقال أنه أمر بقتله فشفع فيه حسن باشا طاهر من القتل وأن يخرج منفيًا هكذا أشيع واستفيض وانضم إلى ذلك أنه قال لشريف بك أمين الخزنة عند تأخر علوفته خدمة نصراني أحسن من خدمتكم مع المشاجرة فبلغها شريف بك للباشا أيضًا وأوغر صدره عليه ودفع له الباشا علوفته وثمن ما حازه من الأماكن والأملاك ووصله على عدة جمال محملة بالدراهم وسافر في ثامنه على طريق البر وأبقى حريمه وأثقاله ليأتوه على سفن البحر. وفي ستدس عشره أمر الباشا بقراءة صحيح البخاري بالجامع الأزهر فاجتمعوا في يوم الاثنين سابع عشره وقرأوا في الأجزاء على العادة ضحوة النهار أربعة أيام آخرها الخميس وفرقوا على أولاد المكاتب دراهم وكذلك على مجاوري الأزهر في نظير قراءة البخاري. واستهل شهر جمادى الأولى بيوم الأحد سنة 1236 فيه حضر إبراهيم باشا ونزل بقصره الجديد بل قصوره لأنه أنشأ عدة قصور متصلة وبساتين ومصانع متسعة مزخرفة منها قصر لديوانه وقصر لحريمه وقصر لخصوص عباس باشا ابن أخيه وغير ذلك. واستهل شهر جمادى الثانية بيوم الثلاثاء سنة 1236 فيه عزم إبراهيم باشا على إعادة قياس أراضي قرى مصر وأحضر من بلاد الصعيد عدة كبيرة من القياسين نحو الستين شخصًا. وفي يوم السبت خامسه عدى إلى الجيزة تجاه القصور وجمع القياسين والمهندسين وكذلك مهندسي الإفرنج وقاس كل قياسته وكيفية عمله فعاند المعلم غالي وأحب تأييد أهل حرفته من قياسي القبط وقال كل منهم على الصحيح وعلم إبراهيم باشا أن قياس المهندسين وأرباب المساحة أصح ولكن فيها بطء فقال أريد الصحيح ولكن مع السرعة بعد أن عمل امتحانًا ومثالًا في قطعة من الأرض يظهر بها برهان الصحة والتفاوت وأمسى الوقت فأمرهم بالذهاب والرجوع يوم الخميس الآتي فحضروا كذلك واشتغلوا يومهم بالعمل إلى آخر النهار ثم اختار من مهندسي الأقباط طائفة وطرد الآخرين وسافر في رابع عشره إلى ناحية شرق اطفيح وأخذ م المهندسخانه كبيرها وصحبته سبعة عشر شخصًا وكذلك أشخاصًا من الإفرنج المهندسين وانتقصوا من القصبة في هذه المرة مقدار قبضة. واستهل شهر رجب بيوم الخميس سنة 1236 فيه سافر مماليك الباشا إلى جهة أسيوط مثل العام المضي ليكرتنوا هناك حذرًا وخوفًا عليهم من حدوث الطاعون بمصر. وفي سابع عشره ارتحل محمد بك الدفتردار مسافرًا إلى دار فور ببلاد السودان بعد أن تقدمه طوائف كثيرة عساكر أتراك ومغاربة. وفي خامس عشرينه أمر الباشا بنفي محمد المعروف بالدرويش كتخدا محمود بك الذي هو الآن كتخدا بك والسيد أحمد الرشيدي كاتب المرزق وسليمان أفندي ناظر المدابغ والجلود ثلاثتهم إلى قلعة أبي قير لمقتضيات واهية في خدم مناصبهم ومحمد كتخدا كان ناظرًا على الجلود في العام الماضي قبل سليمان أفندي المذكور. وفي أواخره حضر جماعة من المماليك المصرية الذين كانوا بدنقلة فيهم ثلاثة صناجق أحدهم أحمد بك الألفي وهو زوج عديلة هانم بنت إبراهيم بك الكبير. في ثامنه يوم الجمعة عمل سليمان آغا السلحدار الجمعية بالجامع المعروف بالأحمر وكان قد تخرب ولم يبق به إلا الجدران فتصدى لعمارته سليمان آغا المذكور وسقفه أيضًا بأفلاق النخيل والجريد والبوص وأقام له عمدًا من الحجارة وجدد منبره وبلاطه وميضاته ومراحيضه وفرشه بالحصر وعمل به الجمعية في ذلك اليوم واجتمع به عالم كثيرون من الناس وخطب على منبره الشيخ محمد الأمير وبعد انقضاء الصلاة قرأ درسًا وأملى فيه حديث من بنى لله مسجدًا وبعد انقضاء ذلك خلع عليه فروة وكذلك على الشيخ العروسي وعمل لهم شربات سكر. وفي يوم السبت ثالث عشرينه حضر إبراهيم باشا من ناحية شرق اطفيح. وفي يوم الثلاثاء سادس عشرينه سافر بمن معه إلى ناحية شرقية بلبيس. واستهل
|